فصل: مقدمة الكتاب:

مساءً 11 :23
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
17
الأربعاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة (نسخة منقحة)




.مقدمة الكتاب:

.مقدمة الطبعتين: الثالثة والرابعة:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله لا نحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه. فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، له الحمد كالذي نقول وخيرًا مما نقول وله الحمد أن هدانا لحمده، وعرفنا به، ونسأله تعالى أن يرزقنا الإيمان به، والثبات على الإيمان حتى نلقاه.
والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة، الذي بلّغ البلاغ المبين، وأدى الأمانة كاملة، وكان العبد الكامل لسيده ومولاه، والرسول الكامل، والنبي المبجل والمكرم والإمام فصلوات الله عليه وسلامه. وبعد.
أخي القارئ هذه هي الطبعة الثالثة من (الفكر الصوفي) تمتاز عن سابقتيها بتدارك الأخطاء المطبعية واللغوية، وزيادة الفصل الخاص بالطريقة الرفاعية من صفحة 562 إلى صفحة 596. وقد نبهنا إلى منهجنا في هذا الكتاب في مقدمة الطبعة الثانية.
وقد أصبح هذا الكتاب بحمد الله موسوعة ومرجعًا لكل من أراد التعرف على هذا الفكر، والإحاطة بمباحثه المتفرقة، وتصور عقائده وشرائعه، وطرائق أهله في الفكر. وكذلك الرد على معظم ما انتحلوه من عقيدة وشريعة. وبهذا تيسير- بحمد الله- على طلاب العلم معرفة الفكر الصوفي في يسر وسهولة، وتعلم طريقة الرد على زندقتهم وخرافاتهم ودجلهم، ومعرفة أمهات الكتب عندهم، وأساطين فكرهم، وكيف تطورت العقيدة والشريعة الصوفية. ونرجو بهذا أن نكون قد مهدنا الطريق إلى القضاء على هذا الفكر المنحرف، وفتحنا الطريق أمام ناشئة المسلمين إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، وإزالة عقبة كأداء كانت تحول بينهم وبين ذلك. والله سبحانه هو المسئول أن يجعل هذا خالصًا لوجهه، وأن يكتب له القبول في الأرض، والرفعة مع الأعمال الصالحة إلى السماء إنه هو السميع العليم.
وكتبه عبدالرحمن عبدالخالق، في الكويت، في رجب الحرام سنة 1406هـ- أبريل سنة 1986م.
بسم الله الرحمن الرحيم

.مقدمة الطبعة الثانية:

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، سبحانه وأشهد أنه لا ند له ولا شريك وأنه بذاته فوق عرشه عال على جميع مخلوقاته ومخترعاته ومصنوعاته وأنه هو الذي خلق الخلق وأوجد هذا العالم من العدم وأنه ما خلق الملائكة والجن والإنس إلا ليعبدوه ويوحدوه ويمجدوه وأن السموات والأرض وما فيهما جميعًا كل له خاضع وأن الجميع وفق أمره، ورهن مشيئته، فما شاء كان وما لم يشأه لم يكن، وأثني عليه سبحانه وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد الذي بعثه الله إمامًا للناس وهاديًا ومرشدًا ومفرقًا بين الضلالة والهدى، والكفر والإيمان، والشرك والتوحيد: {فَمَن يَكْفُرْ بِالْطَّاغوت ويؤْمِن بِاللهِ فقَدِ اسْتمسَك بالعُروَة الوُثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} [البقرة: 256].
وبعد:
فإن أعظم فتنة ابتلي بها المسلمون قديمًا وحديثًا هي فتنة التصوف. هذه الفتنة التي تلبست للمسلمين برداء الطهر والعفة والزهد والإخلاص، وأبطنت كل أنواع الكفر والمروق والزندقة، وحملت كل الفلسفات الباطلة ومبادئ الإلحاد والزندقة. فأدخلتها إلى عقائد الإسلام وتراث المسلمين على حين غفلة منهم، فأفسدوا العقول والعقائد. ونشروا الخرافات والدجل والشعوذة، ودمروا الأخلاق، وأتوا على بنيان دولة الإسلام من القواعد إذ حارب المتصوفة العلم والجهاد والبصيرة في الدين، بل والزواج والعمل والكسب، فنصبوا للقرآن والسنة حربًا لا هوادة فيها، وحرفوا الناس عن تعليمها بكل سبيل زاعمين تارة أن القرآن والسنة علم أوراق وظواهر وأن علمهم الباطني علم أرواح وحقائق واطلاع على الغيب ومشاهدة وتارة أخرى زاعمين أن أورادهم وأذكارهم تفضل ما في القرآن والسنة آلاف بل عشرات الآلاف من المرات وتارة ثالثة واصفين كل علماء الشريعة بأنهم محجوبون مرتزقة ظاهريون جامدون، لم يتذوقوا الحقائق ولم يشاهدوا الغيب، واختص المتصوفة أنفسهم وهم بوجه عام من الزنادقة المبتدعين والكفار المستترين بأنهم أهل العلم اللدني، والحقيقة..
واستطاعوا بذلك أن يدخلوا كل ما سطره الكفار والزنادقة إلى عقائد المسلمين وأول ذلك ما يسمى بعقيدة وحدة الوجود التي تنادي بأن الوجود كله وحدة واحدة فلا خالق ولا مخلوق، الكل عين واحدة، وحقيقة واحدة في زعمهم تعددت وجوداتها، وتغيرت صفاتها ولكنها شيء واحد فالجنة والنار، والرسل والشياطين، والمؤمنون والكفار، والطهارة والنجاسة، والشرك والتوحيد شيء واحد وذات واحدة، ولا فرق- بتاتًا- عندهم بين موسى وفرعون، وإبليس أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم وفضَّل شيخهم الأكبر كما يدعون فِرعون على موسى لأن فرعون علم الحقيقة التي يدعيها الصوفية- حيث قال: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24].!! وهكذا خرج المتصوفة على المسلمين بدين، هذه مبادئه دين يرى في إبليس مثالًا للفتوة والتوحيد. لأنه لم يرض أن يسجد إلا لله بزعمهم، وبفرعون إمامًا لأهل الإيمان الصوفي.. لأنه عرف الحقيقة وأنه هو الله، والحال عندهم أنه ليس في الكون إلا الله.. دين لا يفرق بين خالق ومخلوق وشرك وتوحيد، وكفر وإيمان، وطهر وفجور.. وجنة ونار.
أقول لقد استطاع المتصوفة إفساد عقائد المسلمين في قرون متطاولة، واستطاعوا كذلك إفساد أعمالهم وشرائعهم وكانت لهم اليد الطولى في هزيمة العالم الإسلامي وسقوطه تحت نير الاستعباد والذل والتبعية لدول الكفر، كان التصوف هو المعبرة التي عبر عليها الملحدون والزنادقة والمفسدون في الأرض والعباءة التي تستر بها كل من يريد التخريب والتدمير لأمة الإسلام ورسالة القرآن ثم بعد ذلك كان التصوف هو الجسر الذي ركبه وعبره كل من يريد الوصول إلى تعظيم الناس له، واستعباد الآخرين، وأكل أموالهم بالباطل فقد تحول الزنادقة ومن لا أصول لهم معروفة من الأعاجم والملاحدة فدخلوا في التصوف، وانتسبوا زورًا إلى أهل بيت النبوة وادعوا الكرامات والكشوف والعلوم الإلهية اللدنية التي تنزل عليهم، ومن ثم سخروا الناس لخدمتهم بل وعبادتهم من دون الله أحياءً وأمواتًا، فحملت لهم الهبات والهدايا. وانهالت من كل حدب وصوب، وقدسهم الناس وعظموهم تعظيمًا لم تعرفه الملوك ولا أبناء الملوك من الجبابرة المفسدين واستطاع هؤلاء الزنادقة المتسترون أن يقيموا إقطاعات دينية، وممالك طائفية تربعوا على عروشها، وجعلوها وراثة في أولادهم من بعدهم.

.سبب تأليف الكتاب:

لقد كانت رؤية هذا الخطر الماحق على أمة الإسلام هو السبب الذي حداني إلى أن أؤلف هذا الكتاب، كاشفًا القناع عن الحركة الصوفية قديمًا وحديثًا، مبصرًا المسلمين بأبعادها، مبينًا مخاطرها وأهدافها.

.منهج الكتاب وتقسيماته:

وقد صدر أصل هذه الرسالة سنة 1975م وقد شملت الجانب العقائدي فقط من التصوف وانشغلت عن إتمام الكتاب بمشاغل أخرى ثم يسر الله سبحانه وتعالى أن يتم الكتاب بالصورة التي كنت أطمع فيها حيث قسمت الكتاب إلى أبواب ستة جعلت الباب الأول لبيان الخطوط العريضة لعقيدة الإسلام في الكتاب والسنة، وأنه لا عقيدة إلا من القرآن والسنة، ولا شريعة كذلك إلا منهما وأن كل ما خالفهما فهو باطل. وذلك حتى تتضح هذه الحقيقة التي هي أصل الدين وأساسه والتي عمل الصوفية كل همهم لنقضها وهدمها، فالتصوف يقوم أول ما يقوم على هدم هذين الأصلين توحيد المعتقد، وتوحيد العمل، فعند الصوفية كل ما اعتقده الناس جميعًا مؤمنين وكفارًا وزنادقة وفلاسفة وعلى أي ملة ومذهب فهو حق، وكل عمل وشريعة فهي حق وأما الإسلام فإنه يقوم أول ما يقوم على أنه لا هدي إلا هدي الإسلام ولا عقيدة حق إلا عقيدة الكتاب والسنة ولا شريعة واجبة الإتباع إلا شريعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لا صراط يوصل إلى الله إلا صراطه. وأما المتصوفة فكل الطرق نافعة وصالحة وكل الشرائع مهما كانت فعينها واحدة.
وخصصت الباب الثاني لمجمل تاريخ التصوف: كيف بدأ التصوف، وكيف انتشر وما هي المراحل التي مر بها إلى يومنا هذا والخطوط العريضة للفكر الصوفي في العقائد والشرائع.
وأما الباب الثالث فهو أوسع الأبواب، وقد شمل ثلاثة عشر فصلًا كلها في تفصيل المعتقد الصوفي كيف بدأ وكيف تطور إلى أن وصل إلى غاياته ونهاياته في القول بوحدة الوجود، والمناداة بوحدة العقائد جميعًا، والأديان جميعًا وجعل كل المتناقضات حقيقة واحدة (لله في زعمهم) تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. ثم عرضنا لعقيدة المتصوفة النهائية فشرحناها بحمد الله فصلًا فصلًا بدأنا بما سموه بالحقيقة المحمدية ويعنون بذلك أن الرسول هو أول موجود في الكون وهو المستوي على عرش الله فوق السماوات السبع، وأنه هو الذي خلق هذا العالم من نوره وهو الذي أرسل الرسل وأنزل الشرائع وأن كل العوالم السفلية والعلوية من فعله وصنعته وتدبيره وأنه بذلك المظهر الحسي لله في زعمهم. الله الذي لا يعدو كونه عندهم هو مجموع هذا العالم!!
شرحنا عقيدتهم هذه بالنصوص من كتبهم، ورددنا عليهم، ثم بينا معتقدهم في الخضر عليه السلام والذي جعلوا له صورة وحقيقة غير ما جاء في الكتاب والسنة. ثم بينا عقيدتهم في علم الغيب وما سموه بالكشف، ثم قولهم في معراج الروح إلى السماوات ونقلنا نقولًا مستفيضة من خرافاتهم وترهاتهم ثم بينا كذلك أقوالهم وعقائدهم في الولاية الصوفية وشرحنا كيف خلعوا كل صفات الربوبية على أوليائهم المزعومين. وبينا مرارًا الولاية عندهم وتقسيماتهم لها، ثم خصصنا فصلًا لمعتقدهم فيما سموه بختم الولاية ومن قال بذلك منهم قديمًا وحديثًا ثم في عقيدتهم الخرافية في الديوان الذي يحكم العالم من جبل حراء بمكة!!
وأما الباب الرابع: فقد خصصناه للشعائر الصوفية فعرضنا لشعائرهم في الذكر وكيف يتلقون أذكارهم في زعمهم من الرسول يقظة لا منامًا ومن الله- في زعمهم- مكتوبة!! وكيف يتلقون من القبور. وبينا أيضًا ما زعموه من فضائل لأذكارهم المكذوبة. ثم بينا منهجهم وطريقتهم فيما سموه بالشطح. وشرحنا منهجهم في التربية الصوفية وكيف يغسلون الأمخاخ ويحولون العقلاء إلى مجانين ومجاذيب ودراويش سائمة يسهل قيادتهم وتوجيههم. وبينا في الفصل الرابع من هذا الباب الطرق الصوفية وشرحنا بالتفصيل طريقة حديثة مشهورة هي الطريقة التجانية لما لهذه الطريقة من شهرة وانتشار. وفي الفصل الخامس نقلنا بالنص مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية لأتباع الطريقة الرفاعية في وقته.
وأما الباب الخامس: فقد شرحنا فيه الصلة بين التصوف والتشيع وأنهما كانا دائمًا وجهين لعملة واحدة. عملًا لأهداف واحدة وأخذ كل منهما عن الآخر.
وأما الباب السادس: والأخير فقد بينا فيه موقف طائفة من علماء المسلمين قديمًا وحديثًا من الفكر الصوفي بدءًا بالإمام الشافعي رحمه الله الذي كان له السبق الأول في الكشف عن هذه الفرق الباطنية، ثم الإمام أحمد الذي فضح مسلكهم وحارب أوائلهم حتى اختفوا إلى أن ماتوا. وختمنا هذا الباب بشهادة لرجلين متأخرين كانا من رجال التصوف البارزين فهداهما الله إلى الإسلام الصحيح وكتب كل منهما في فضح التصوف وهما الشيخ الدكتور تقي الدين الهلالي والشيخ الراحل عبدالرحمن الوكيل.
هذا وإني لأسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وأن يكون هذا الكتاب النور الهادي للأمة لكشف غمة التصوف حتى تنزاح إلى غير رجعة عن وجه العالم الإسلامي.
وقد حاولت جهدي أن أسهل العبارة وأشرح الغامض وأختصر في الرد وأبسط وأسترسل في النقل من كتب القوم وذلك لعلمي أن ظهور عقائد هؤلاء الزنادقة كاف في إبطالها وذلك أنها عقائد ينفر منها كل قلب سليم وكل فطرة لم تتنجس. وإنه ليكفي فقط أن نكشف الهالة الزائفة التي أحيطت بالتصوف لتظهر الحقيقة العارية البغيضة المشينة والتي إذا علمها أي مسلم لا بد أن ينكرها.

.مميزات هذه الرسالة عن غيرها:

وأحمد الله أن هذا الكتاب قد تميز عن كتب كثيرة كتبت في بيان حقيقة الصوفية أنه كان موضوعيًا مفصلًا وهو أول كتاب فصل بين العقيدة الصوفية والشريعة الصوفية وشرح كل باب من أبواب المعتقد الصوفي على حدة وكل شريعة لهم على حدة. وبذلك تكتمل الصورة عند القارئ ويفهم مغاليق التصوف ويتعرف على دروبه وسراديبه الخفية.
وفي الختام أسأل الله ثواب هذا العمل من عنده إنه هو السميع العليم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الأمين وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عبدالرحمن عبدالخالق، الكويت في يوم الاثنين، 9من ذي القعدة سنة 1404هـ- الموافق 6 من أغسطس سنة 1984م.

.مقدمة الطبعة الأولى:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وصف نفسه في كتابه، وعلى ألسنة رسله، فهدانا وعلمنا، وشرح صدور أهل الإيمان إلى توحيده وعبادته وتقديسه، فشهدوا شهادة الحق أن الله إله واحد سبحانه، كما قال عز وجل: {شهدَ اللهُ أنَّه لا إلهَ إلا هوَ والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسطِ لا إلهَ إلا هوَ العزيزُ الحكيمُ} [آل عمران: 18].
أحمده سبحانه، وأستعينه وأستغفره، وأسأله أن يجعلني أحد أولئك الذين شهدوا له بالوحدانية، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله، محمد الداعي إلى سبيل ربه على بصيرة، الذي وصف ربه بما أوحي إليه، فأقام، للناس دينهم الحق، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه القويم إلى يوم الدين.
وبعد:
فالحركة الصوفية حركة قديمة، نشأت في منتصف القرن الثاني الهجري، وبلغت قمتها العقائدية في أواخر القرن الثالث، أي بعد مرور مئة وخمسين سنة تقريبًا على نشأتها. وأصبحت عقيدة عامة، ودينًا عامًا لعموم المسلمين إلا قليلًا في القرون التاسع والعاشر والحادي عشر، وكانت هذه القرون قرون ظلام وجهل، أفاق العالم الإسلامي بعدها على الغزو الأوربي لأراضيه. وكان العالم الإسلامي في ذلك الوقت في حالة بلغت منتهى السوء، فإن كثيرًا من علماء المسلمين لم يجدوا ما يجابهون به الفاتحين من الفرنسيين إلا أن يقرؤوا كتاب البخاري!! وكان ذلك في القاهرة وفي الأزهر ثم اصطحاب نابليون وإلباسه جبة المشيخة، وإدخاله في حلقة من حلقات الذكر!!
وأما في المغرب فإن أتباع الشيخ أحمد التجاني كان لهم شرف خدمة الفرنسيين في ترسيخ أقدامهم في شمال أفريقيا وغربها، وأما في السودان فإن السيد الميرغني والطريقة الختمية قد وطأت الناس لدخول الإنجليز، والقضاء على الثورة المهدية.
وهذه الحركة الصوفية ما زالت تعيش إلى يومنا هذا، بل هي في حالة بعث جديد تقوم عليه اليوم مراكز تعليمية كبيرة في بلاد الغرب وفي بلادنا الإسلامية، وهناك حركة نشطة لبعث التراث الصوفي، ليكون دعامة لبعث إسلامي في زعم القائمين على نشر هذا الفكر.
ولقد كانت صلتي بدراسة التصوف قديمة، وذلك للموقف المتناقض الذي وقفه كثير من الباحثين والعلماء من هذه الحركة الصوفية، ومن فكرها الذي نشأ عنها، وكذلك للاختلاف الشديد حول رجالها، فكم من رجل من رجال التصوف اتهمه أناس بالزندقة والإلحاد، ووصفه آخرون بالقديسية والقطبية والغوثية. ولقد كان هذا التناقض والاختلاف في موقف علماء الإسلام إزاء هذه الحركة، وهذا الفكر باعثًا لي على النظر والتفكير والبحث.
فمكثت مدة طويلة أجمع القول إلى القول، وأقف عند العبارة الغامضة طويلًا، وأفسر كلام القوم بعضه ببعض. وأظن أنني الآن بحول الله قد عرفت مغاليق هذا الفكر، ومساربه الخفية، ولم يكن هذا الأمر سهلًا قط، بل يعلم الله أنني تحملت فيه كثيرًا من الآلام النفسية المرهقة، وذلك أن أساطين القوم قد مارسوا تشويهًا لكتاب الله عز وجل وقلبًا لمفاهيم السنة الصحيحة، لا يحيط به إلا الله، ولا يطيق الوقوف عليه مسلم جاد!!
ولقد تجشمت مشقة ذلك لعلمي بعد الدراسة والجهد أن هذا الفكر هو أخطر ما يجابه المسلمين في الوقت الحاضر من مشكلات، فمشكلة الفكر الصوفي مشكلة عقائدية، والمشاكل العقائدية هي أخطر ما تقابله الأمة، فالأمة يتحول عملها كله بتحول عقيدتها، فالتتار عندما أسلموا حقيقة، تركوا حرب المسلمين، والمسلمون عندما تركوا الإسلام، وعقيدة الجهاد رضوا بالمستعمرين، وتخلقوا بأخلاقهم، وتثقفوا بثقافتهم.
وهذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ هو بحث في العقيدة الصوفية: ما هي؟ وما الغاية التي تسعى المتصوفة إلى غرسها؟ وما الفروق بين هذه العقيدة وعقيدة أهل السنة؟ وهذه العقيدة أنقلها لك بنصوصها من الكتب والمراجع الصوفية، التي يعتبرها المتصوفة من أنقى كتبهم وأشهرها، كاللمع للطوسي، والتعرف على مذهب أهل التصوف للكلاباذي، وطبقات الصوفية للسلمي، وغير ذلك من الكتب التي كتبت بأقلام رجال التصوف بأنفسهم.
وستعلم من هذه الدراسة أن التصوف عقيدة فلسفية قديمة، نشأت قبل الإسلام في الفلسفة الاستشراقية المنسوبة إلى (أفلوطين). والفلسفة الهندية القديمة، والتي ما زالت عقيدة الهند إلى اليوم، وهي القول بوحدة الوجود، وهذه العقيدة هي عقيدة كثير من شعراء الفرس قبل الإسلام، وبعد الإسلام كجلال الدين الرومي.
وهذا يعني أن التصوف غير الزهد المعروف في العقيدة الإسلامية، فالزهد شيء، والتصوف شيء آخر، يختلف عنه كل الاختلاف، بل هناك فرق بين الزهد في عقيدة الكتاب والسنة، والزهد في العقيدة الصوفية. فالتصوف فلسفة كاملة، وعقيدة غايتها فتح القلب على علوم غيبية، لا تتلقى عن الرسل، بل تتلقى بطريق (الكشف) عن الله رأسًا، أو عن الرسول (حسب زعمهم). ثم التحقق بعد ذلك أن لا موجود في الكون إلا الله، وبذلك يصبح العبد هو الرب، والرب هو العبد، بل الكل شيء واحد في الحقيقة، متفرّق في الصور فقط!! وطريق الوصول إلى هذا العلم الغيبي (الكشف هو المجاهدة بصور كثيرة). وتختلف هذه الصور باختلاف الزمان والمكان، والأشخاص والديانات!! ويجمعها أمور واحدة هي تعذيب النفس، وترديد أذكار معينة، والعزلة وترك الطهارات.
ولا يعني هذا أن كل رجل نسب إلى التصوف كان يعتقد هذه العقيدة، بل من وصل الغاية منهم وصل إلى هذا، ومن لم يعرف التصوف لم يصل إلى هذه الغاية، ووقف عند مرحلة من مراحل الطريق الصوفي، الذي ينتهي بتلك النهاية. فالطريق الصوفي مراحل، وكلام كل إنسان فيه يدل على المرحلة التي انتهى إليها.
والجوانب التي يجب أن يتعرض لها بحث كامل عن التصوف جوانب كثيرة، لا يسعها هذا البحث، ولذلك فقد اقتصرت في البحث الذي بين يدي القارئ الآن على بحث الجانب العقائدي فقط في الفكر الصوفي، جوابًا عن سؤال هام: ما هو التصوف؟ وما العقيدة التي ينتهي إليها؟ وما موقف هذا الفكر من قضية الكتاب والسنة؟ وأسأل الله أن يوفقني قريبًا إلى إخراج هذا البحث كاملًا، معالجًا جميع القضايا التي أثارها هذا الفكر في العبادات والسلوك وتزكية النفس، ثم الآثار السياسية والاجتماعية لهذا الفكر، مع تعريف برجالاته، منذ ظهوره إلى يومنا هذا، سائلًا الله تبارك وتعالى أن يجعل في هذه الرسالة الميسرة هداية ونورًا لأبناء أمتي الإسلامية، الذين يعزهم الطريق المستقيم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى، في وقت تختلط فيه السبل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه، وأسأله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم.
عبدالرحمن عبدالخالق يوسف
الكويت في غرة جمادي الآخرة ل- 1394
21 يونيو 1974